" هناك رعب لا يمكن وصفه, وفي رأيي أنه يفوق أي رعب آخر : إنه العجز عن النوم.
يبدو الأمر سهلا في البداية.. لكنك تكتشف مع الوقت أنك دخلت دائرة جهنمية. النوم لا يستدعى ولكن يأتي عندما يريد ذلك.. عندما تشرب كوبا من الحليب الساخن وتدخل الفراش الذي يبدو مريحا, وعندما تغمض عينيك وتسمع زوجتك تغط بصوت عال ـ ككل كائن نقي الضمير ـ وعندما ترتقب النوم, تكتشف الحقيقة المروعة : النوم لا يأتي أبدا عندما ننتظره.. متابعة التفاصيل العصبية وتدفق موصلات النوم ومادة السيروتونين في المخ.. هذه المتابعة تجعل النوم يطير من عينيك.. تتقلب..
تحاول التفكير في أشياء كثيرة.. ذكريات اليوم. ذكريات الماضي.. ما ينتظرك غدا.. ثم تكتشف أنك مازلت يقظا وأن التنميل يغزو ذراعك اليمني, فتنهض وتتقلب.. لابأس.. هذا وضع مريح أكثر.. ربما تنام الآن.. المزيد من تدفق الذكريات وصوت الغطيط. أنت الآن في الماضي.. تقابل أشخاصا رحلوا أو ماتوا وتتبادل معهم كلمات, وتعتذر عن أفعال ارتكبتها منذ زمن.. تفيق للحظة فتدرك أن الساعة الثالثة بعد منتصف الليل وأنت لم تنم بعد..
لقد صارت ذراعك اليسرى منملة.. تحاول النوم علي ظهرك.. وتفتح عينيك لتنظر للظلام المسطح فهذا يساعد علي النوم كما يقولون, لكنهم نسوا أن الظلام يصلح كلوح كتابة.. كما في المدرسة تكتب ذكرياتك بالطبشور علي الخشب الأسود, وتمر ساعة ثم تفيق لتجد اللوح مليئا بالكتابة, وتدرك أنك لم تنم بعد..
تذهب للحمام لإفراغ المثانة.. تعذبك فكرة أن الجميع نائم يستعيد توازن جهازه العصبي.. الكل يحلم ويخرج رغباته المكبوتة بشكل رمزي, بينما أنت تحتفظ بكل هذا السواد. الأرق نوع من الإمساك العصبي.. لا يمكن تفريغ أحشائك العصبية من ذكرياتها المؤذية مهما حاولت. يبدو أنني بدأت أخرف..
الفراش ـ بعد كل هذه الحركات ـ لم يعد يرحب بأحد. الصورة المنظمة الموحية بالاسترخاء ولت للأبد لتتحول إلي أرض حرب معادية.. مائة ثنية في الملاءة ومائة تجعيدة والوسادة لن تعود أبدا لوضعها القديم. كأنك تحاول النوم في أرض تدريب مدرعات.
في الخامسة صباحا يتسلل نور النهار البكر حديث الولادة إلي الغرفة, وتدرك أن كل شيء صار حقيقيا.. لقد غاب الظلام وغابت الظلال, ولم يعد الحلم ممكنا..
من جديد تذهب للمطبخ وتشرب كوبا من اللبن البارد, علي أمل أن تظفر بساعة أخرى قبل موعد العمل.. العصافير تسخر من عجزك فوق كل أشجار الشارع.
من جديد تتقلب ألف مرة, وتدعو الله أن ينقذك من هذا الجحيم, فتأتي النجدة علي صورة يد حازمة تهزك :
محفوظ .. محفوظ !.. حان الوقت!
أنت الآن تواجه العالم من دون السلاح الوحيد الذي وهبه الله للإنسان, وأنقذه من براثن الفهد وأنياب الأسد وسم الأفعي.. السلاح الذي جعله يحكم كل الكائنات ويغزو الفضاء : العقل..
لم يعد لديك عقل. كل شيء زائغ ماسخ اللون.. كل شيء مزدوج.. كل قرار صعب حتي رفع كوب الشاي لشفتيك يبدو بحاجة لتفكير وتمحيص...
الأرق رعب لانهاية له.. ألا ترى هذا معي ؟! "
من كتابات احمد خالد توفيق