عامة أحاول ألا أصادق أحدًا على الإطلاق لأن الحياة أقصر من أن نضيعها في العلاقات الاجتماعية· اليوم يزورك إبراهيم الششماوي وزوجته وأطفاله الخمسة، ويقضي الأمسية كلها يحكي لك عن أمجاده ورئيسه الأحمق في العمل الذي لا يفهم أي شيء، بينما تنشغل زوجته في صفع هذا الولد القليل الأدب وضرب هذا وركل ذاك، وينشغل الأطفال في تحطيم كل شيء تحبه أو تعتز به في البيت، وزوجتك تبتسم مؤكدة أن··· كراش ش ش! هذا صوت شاشة التلفزيون التي قذفها أحدهم بمطفأة السجائر· زوجتك تؤكد أنه لا مشكلة وأننا كنا نتمنى من زمن أن يتحطم هذا التلفزيون· وفي النهاية يرحلون كالمغول تاركين خرابًا وأرضًا محروقة، وعليك أن ترد الزيارة·· ونتيجة رد الزيارة أن يردوا الزيارة! لا·· لا يوجد شيء يستحق هذا كله·
لكني إذا صادقت أحرص بشدة على ألا أصادق من يكتبون الشعر خاصة إذا كان رديئًا· لاحظت أن الشعراء المجيدين يبخلون بشعرهم كأنه الدر المكنون فلا يخرجونه إلا لمن يستحق وعندما تمس الحاجة له، بينما الشعراء الـ (نص لبة) - كما يقول المصريون - لا يكفون عن الصراخ بالشعر في كل وقت وكل حين· أذكر واحدًا من هؤلاء كان يكرر قصيدة بعينها فيها مقطع يقول: ''سقطت ذبابة في الدورق''· كان يردد هذا المقطع بلا توقف بينما اللعاب يتطاير من فمه والجنون في عينيه· الأسوأ أنه يصرخ في وجهك بعنف، حتى أن من ير المشهد من بعيد يعتقد أنه يصرخ فيك وأنت عاجز عن الرد·
هناك دائمًا تلك الأجندة المكتنزة بالقصائد تحت إبطه· في أية لحظة يخرجها ليبدأ في الصراخ· تمر أنت بمرحلة الإصغاء فالابتسام فالاكتفاء فهز الرأس فإظهار الملل فالتذمر الصريح فالهلع ومحاولة الهروب، لكنه مصر على أن ينهي المعلقة·· وقد قلت مرارًا إنه لا شيء سوى الديناميت في الفم يقدر على جعل الشاعر المتحمس يتوقف·
كل كلامه مفتعل بطريقة فظيعة· لا يقول (تصبحون على خير) وإنما (تصبحون على اكتمال)· حتى أتمنى أن أسمع ما يقوله للبقال عندما يشتري جبنًا، أو عندما يشكو للسباك من انسداد بالوعة الحمام· مستحيل أن يتكلم بلغة العامة مثلنا·
أذكر أن أحدهم وقف ينشد لي الشعر في محطة القطار، وأنا أكرر استحساني بينما القطار يصفر منذرًا لآخر مرة·· لو لم تركب فهي مشكلتك وعليك أن تمضي ليلتك هنا·· لكنه مستمر·· مستمر·· هكذا لم أجد بدًا من تركه بلا كلمة والركض للحاق بالقطار·
ثم تأتي لحظة المظروف! المظروف المكتنز المليء بالشعر الذي يعطيه لك، ويطلب رأيك فيه خلال يوم كأن المطبعة في الانتظار· تحمله عائدًا للبيت كأنك تحمل صحيفة ذنوبك·
أما العمل الأخطر فهو أن تحضر مهرجانًا شعريًا يؤمه هذا الطراز من الشعراء· عامة هناك نوعان من الشعر حاليًا·· شعر (أتدحرج عبر الطرقات الشتوية·· تخنقني أزمنة اللاجدوى) وهذا النوع من الشعر لابد أن يظهر فيه دون كيشوت في لحظة ما· هناك أكثر من (نهد) ومقطع يحوي تجديفًا يقشعر له جسدك يضعونه خصيصًا كي يثير غضب الجهات الدينية فتنشأ معركة على حرية الإبداع والرقابة على الضمائر·· الخ·· وهي معركة تنتهي ببيع كل نسخ الديوان على كل حال· لابد من كلمة (يا سيدتي) هنا وهناك لإضفاء لمسة نزار قبانية على الموضوع· النوع الثاني من الشعر السائد حاليًا هو (مات الذي قد كان نبراسا·· من بعده ساد الأسى الناسا)· سوف تسمع الكثير جدًا من هذا الكلام حتى ينفجر رأسك، ثم يظهر ناقد يمط شفته السفلى في قرف ويتكلم عن :''البنية الإبداعية الكوزموبوليتانية في إرهاصات ما بعد الحداثة· هذه هي الممارسة المنهجية القولية النقدية تكشف عن نفسها داخل الطرح البنيوي''·
نعم·· إن الشعراء خطر داهم يمكن أن يدفعك للانتحار ما لم تكن قد انتحرت فعلاً حتى هذه اللحظة· على أني شعرت أن بوسعي أن أحبهم، عندما دعوت ثلاثة منهم إلى عزومة من (لحمة الراس) في مطعم قريب، ورأيت كيف يلتهمون الطعام في نهم شعري وكيف يفرغون العظام من النخاع ويقذفون أصابع الممبار ثلاثًا في أشداقهم· عندها عرفت أن الشاعرية الإبداعية الكوزموبوليتانية قد تغزو كل جزء في كيانك، لكنها تترك معدتك بشرية كما هي·