النيولوجيزم أو اللغة الجديدة ظاهرة ضايقت الآباء والمعلمين على مدار التاريخ، وفي كل مرة تنتصر لتولد مصطلحات جديدة تماما، ثم يصير مستعملو هذه اللغة الجديدة آباء ومعلمين يصيبهم الجنون عندما يستعمل أبناؤهم لغة جديدة! |
في مراهقتي ظهرت في العامية المصرية لفظتان هما (سكة) بفتح السين. ومعناها (الشيء الرديء عديم القيمة) و(ماشی) ومعناها يشبه OK.. وهما كلمتان معقولتان جدا لكن أبي كان يوشك على الإصابة بالفالج كلما استعملتهما، وقد قال لي ذات مرة:
. «هنا بيت محترم فإذا أردت استعمال لغتك هذه فلتذهب البيت آخر!»
لم تكن مدام (عفيفي) تعرف شيئا من هذا عندما ذهبت للمكتبة المجاورة لدارها وهي شبه منهارة لأن ابنيها المراهقين يتحدثان بلغة هي مزيج من السنسكريتية والفنلندية، وقد فهم الرجل الخبير مشكلتها على الفور وأعطاها قاموسًا صغيرا كتبه أحد الشباب اسمه (قاموس روش طحن).. وقد تصفحت المرأة صفحاته فأصابها الهلع.. لشد ما تغيرت لغة الشباب وصارت لهم مصطلحات خاصة بهم لا يمكن فهمها...
استيقظ ابنها الأكبر طالب الثانوي من النوم فقال لها: - «أنا زهقت من الانتخة العوق دي.. فين الاصطباحة؟»
تصفحت القاموس بسرعة فكادت ترى شريط ترجمة يرتسم على صدره کتب عليه: «لقد سئمت هذا الجلوس الممل في البيت.. أين الإفطار؟». أعدت له الإفطار مسرعة فظهر أخوه طالب الجامعة، وراح يأكل وهو يقول له: «الواد شریف حلق لي امبارح.. الواد ده شحناف وبونتي».
فقال أخوه في لا مبالاة: «كله في الأمبلايظ. أدي له سلك يا مان..»
أمبلايظ؟.. أية كارثة!.. راحت تتصفح القاموس بسرعة حتى فهمت ما يقال.. الأول يقول لأخيه إن الولد (شريف) مدع ولا يفهم شيئا وقد عامله بوقاحة وتجاهله أمس.. فيرد الأخ أنه لا شيء يهم .. يمكنهما تسوية الأمر بمكالمة هاتفية..
انتهى الغداء فنهض الابن الأكبر ليسألها: «إيه النظام.. أبجيني يا ماما»
بمراجعة القاموس عرفت أنه يسألها عن نقود لأنه سيخرج.. وكان القاموس يحتم أن ترد عليه ب (النظام ستسم).. أي أنها لن تعطيه مليما..
بدأت تتعلم هذه المصطلحات ووجدت أن اللعبة مسلية خاصة أنهما يتكلمان غیر عالمين أنها تتابع ما يقولان.
كانت جالسة مع الأب على مائدة الغداء، عندما سمعت أحد الولدين يتكلم من غرفة النوم : - «انت قاطع ودنك ورامیها في حجري!» فيرد الآخر: - «وانت معاك فار مولع!» لم يفهم الأب حرفا وبدا عليه الرعب، فقالت له في هدوء وهي تتصفح القاموس:
- «الأول يتهم الآخر بأنه يتنصت على كل شيء يقوله، بينما الآخر يتهمه بأنه يدخن لفافة تبغ. الفأر المولع معناه لفافة تبغ..»
ابتسم الأب وقد استراح لأنه فهم، ثم استوعب معنی هذا الكلام واحتقن وجهه.. لفافة تبغ في البيت!.. كان يتوقع هذا.. ابنه طالب الجامعة يدخن إذن!
قام بالإجراء التربوي العتيد بأن نزع شبشبه وحمله في يده وتواثب نحو غرفة نوم الولدين ليعيد العدالة إلى مجراها، وفتح الباب بقوة..
هنا رأي أول ما رأى فأرا مشتعلا يجري فوق الفراش ليتواری تحته، ثم رأى أذا مقطوعة على الأرض!!
في المستشفى رقد الولدان في الفراش غارقين في الضمادات، وقال أكبرهما للأب والأم:
.«لقد شرحنا لكما الموقف بدقة لغوية تامة لكنكما لم تفهما!»
قالت الأم:
- «مشكلة النيولوجیزم أنك تفترض أن كل كلمة لها معنى آخر بعيد، وهو ما يعني أننا في مأزق حقيقي!»
سوف يستمر هذا المأزق لسنوات عديدة، إلى أن تولد كلمات جديدة، وتصير كلمة (أمبلايظ) كلمة عتيقة جدا بالنسبة لشباب الغد، ولربماحسبها بعضهم قادمة من معلقات إمرؤ القيس أو عنترة بن شداد.. عندها سوف يفهم الولدان مانشعر به الآن!